الأحد، 28 أغسطس 2011

د. خولة حسن الحديد : حماه مرة أخرى ..والنظام الذي أسقط نفسه

في اقتحام الجيش والأمن السوري وعصابات الشبيحة لمدينة حماه مؤخراً ..استشهد عدد من أبناء المدينة ، نشر على موقع اليوتيوب فيديو وداع أم الشهيد فيصل عدي ( أبو جميل ) وزوجته للشهيد .
كان صوت أم فيصل مبحوحا مجروحاً يقطر ألماً وأنيناً يتغلغل في ثنايا أرواحنا ليصيح فينا إن استفيقوا خاطبت أم فيصل ابنها وأخبرت مودعيه وهي تناجي فلذة كبدها كيف ربته يتيماً بعد أن استشهد والده في مجزرة حماه عام 1982 .. اليوم جميل يستشهد في مجزرة أخرى يرتكبها المجرم عينه وبالأدوات عينها لم يكن الشهيد فيصل عدي هو وحده من تربى يتيماً .. العشرات من أبناء مدينة حماه الصامدة الذين استشهدوا في مجازر النظام السوري بنسخته الأخيرة كانوا قد تربوا يتامى لأن آباءهم استشهدوا أو فقدوا في مجازر الثمانينات التي ارتكبها الأسد الأب واليوم يستشهد هؤلاء ليتركوا أطفالهم يتربوا يتامى أيضاً في مجازر الأسد الابن .. فهل سننتظر حتى يكبر جميل ابن فيصل ومعه مئات بل آلاف الأيتام السوريين حتى يأتي الأسد الحفيد ويسرقوا شبابهم في نسخة ثالثة من المجازر ؟؟ ..
واهم ومخطىء من يظن إننا سنترك حماه كما في أول مرة ..السوريون حتى اللحظة لم يشفوا من جرح حماه الثمانينات ، وجرائم النظام التي ارتكبت يومها تحت جنح الظلام وبقيت آثارها وذاكرة من نجوا فقط لتروي المأساة بقيت ماثلة في قلوبنا وعيوننا .من قال إن الجروح تشفى دون أن تترك ندوب عميقة تحفر في الروح والوجدان..؟؟ تجاوز السوريون وضمدوا جراحهم وملؤوها بالملح متطلعين نحو غدٍ أفضل لأبنائهم ، وبروح يغمرها التسامح واصل الحمويون ومعهم كل السوريون حياتهم دافنين حزنهم وعار سكوتهم في زوايا قلوبهم الأكثر عمقاً والتفتوا لمواصلة الحياة وبناء حماه من جديد .. لكن نظام البغي والإجرام يأبى إلا وأن ينكىء الجراح مرة أخرى متناسياً إن الزمن تغير ، إغن الوحشية التي جرت على أهالي حماه بعيداً عن العيون لا يمكن أن تتم بنسخة جديدة هذه المرة، لأنّ السوريين تغيروا وحطموا جدران الصمت وأبّوا إلا أن يواجهوا كل قوة وهمجية آلة القتل بصدر عارٍ، وقلب عارم بالإيمان بمستقبل أفضل لأولادهم .. والزمن تغير …والأوراق التي كان يلعب بها النظام السوري تغيرت وسقط منها الكثير .. والأهم هذه المرة إن شباب حماه لديهم السلاح الأمضى لفضح أفعال النظام وهو كاميرا الموبايل تلك العين التي غابت في الثمانينات وشبكة الانترنت وكل وسائل الاتصال الحديثة..والأهم عزيمة وشجاعة قل نظيرها أذهلت العالم وجعلته ينحني لها اليوم لم يعد من الممكن دفن الجريمة وترك آثارها فقط بهدف التخويف والتأديب ..في الثمانينات ظنوا إنهم أدّبوا الشعب السوري كله إلى الأبد .. وعندما تعالى هذا الشعب على الجراح ومضى نحو الحياة ظنوا إنهم نجحوا في إسكاتنا إلى الأبد كما يتوهمون …وأهم المعطيات هذه المرة إنّ حماه ليست وحدها في عين العاصفة .. حماه اليوم هي كل مدينة وقرية ومحافظة سوريا قالت لا للطاغية ..حماه هي كل بقعة على التراب السوري قالت كفى استكباراً وتجبراً ولن نسمح للتاريخ أن يعيد نفسه إذ لا يمكن أن نغتسل بماء النهر مرتين كما توهم النظام وأزلامه .
كنت طفلة عندما حدثت مجزرة حماه في ال82 وكنا نشهد من شوارع قريتنا أعمدة الدخان المتصاعدة من مدينة حماه وقد نزحت إلى قريتنا مجموعة من العائلات الحموية المكلومة الهاربة بأطفالها وجرحاها تحت ظروف بالغة الصعوبة باحثين عن ملاذ آمن .. ما زلت أذكر وجوه النسوة وهن يحدثن أهلنا عن الرعب الذي عاشوه وعن جرائم القتل الجماعي وعن حالات النهب والسلب والمهانة،ما زلت أذكر أصوات الأمهات ماثلاً في أسماعي كصوت أم الشهيد فيصل عدي ..لم يتغير الصوت بعد أكثر من ثلاثين عاماً ،إنه صوت القهر والحزن على فقد الأحبة وفلات الأكباد وهجر البيوت، ورحلة الموت التي مروا عبرها حتى وصلوا إلينا .ما زلت أذكر تلك الوجوه الهاربة المرعوبة وهي في حالة من الذهول من هول ما رأت..اليوم تتكرر هذه الصورة المرعبة والمأساوية ليس في حماه وحدها بل في كل مكان خرجت منه مظاهرة ضد النظام ..من درعا إلى شمال حلب ومن بانياس إلى الميادين شرقاً ..لم تبقى قرية وبلدة وحتى مزرعة صغيرة ولم تتشرف بالدبابات والمدرعات التي ترفع العلم السوري وتوجه نيرانها إلى صدور أهلنا وبيوتهم وأرزاقهم .. لم تسلم ولا قرية ولا مدينة من هجوم عصابات الشبيحة التي تسرق وتنهب كل ما تطاله يدها وترعب الأطفال والنساء وتدمر حياتهم وتحيلها إلى كابوس ، لكن بالرغم من كل ذلك بقيت صورة حماه هي الأوجع والأصعب .. اليوم كل سوري حر أصبح حموياً.. كل سوري حر ذاق من كأس حماه 82 .. كل سوري أصبح إبراهيم القاشوش الذي استؤصلت حنجرته عقاباً له على إنشاده الجميل في ساحة العاصي .. ولكن استشهد القاشوش وغابت حنجرته لتولد آلاف الحناجر تنشد أناشيده : يالله ارحل يا بشار .. سوريا بدها حرية.
الذين اقتحموا حماه ووضعوا دباباتهم لتحرس ساحة العاصي وتدك منها بيوت حماه لم يدركوا بغبائهم إنهم خلقوا مئات الساحات …وكلها ساحة العاصي .. في الوقت الي كانت حماه تستباح كانت المدن والقرى السورية كلها تغلي وتنتفض ويردد أهلها : كلنا حماه .. حتى إن أهلنا في مدينة تلبيسة وعندما سحب الجيش من دباباته المرابطة فيها باتجاه حماه طالبوا الجيش بأن تبقى الدبابات عندهم لتقصهم هم قائلين : اقصفوانا نحن لكن لا تذهبوا إلى حماه .
كتب الكثير عن مأساة حماه الثمانينات والبعض أسماها “مأساة عصر ” ..وهاهو عصر جديد من المآسي سيكتب عنه الكثير حتى يجف الحبر .لكن خاتمة هذه المآسي ستكون بلاشك المصير الأسود للنظام السوري وأتباعه وليس المصير الحزين فقط كما توقع أصدقاؤه الروس.. النظام الي أسقط نفسه بجدارة قبل أن ينادي أحد بسقوطه بسبب توغله في دم السوريين واستكباره وتوحشه في استباحة كراماتهم وامتهان إنسانيتهم ، واستباحة الأرزاق والبيوت وحتى المؤسسات العامة أي نظام ها يقصف بالدبابات والمدرعات ويحرق مؤسسات الدولة التي يفترض إنه مؤتمن عليها فقط ليثبت للعالم الخارجي ولبقايا مؤيديه في الداخل نظريته المتخيلة عن العصابات المسلحة أي نظام هذا الذي يمعن في قتل الشباب والشيوخ والأطفال ويعتقل خيرة أبناء السوريين من أطباء وصيادلة ومحامين وطلبة بهدف إرهاب الناس وترويعها وإعادتها إلى حظيرة الطاعة أي نظام هذا الذي يحاصر المشافي ويقصفها ويقطع عنها الماء والكهرباء ليقتل عشرات الطفال الخدج ويتركها تستباح من عصابات الشبيحة الذين لم يوفروا حتى الأجهزة الطبية ومخازن الأدوية أي نظام هذا الذي يضرب بعرض الحائط كل قدسية عند المسلمين لشهر رمضان المبارك ليحول أيام السوريين إلى جنازات تشيع جنازات وشهداء يشيعون شهداء ..حماه اليوم ليست وحدها ..الألم الحموي توزع اليوم على طول البلاد وعرضها .. القهر الحموي اليوم داخل كل بيت سوري وألم الفقد والفاجعة يلمّ بكل الأسر السورية ..
من كان لا يصدق مقولة ” النظام الي أسقط نفسه ” التي قيلت عن النظام السوري فليذهب اليوم إلى درعا وريفها وحمص وريفها وحماه وريفها ودير الزور وريفها وإدلب وريفها ..ودمشق وريفها وحتى حلب التي يباهي بها النظام ومعها ريفها ليرى بأم عينه كيف أسقط النظام نفسه ..وكيف أصبحت المدن والقرى تدفن أبناءها على عجل لتواصل فعل الكرامة وتواصل مسيرة استرادها ما سلب منها من إنسانية مهدورة .. اليوم باتت دبابات ومدرعات الجيش السوري وعصاباته في كل المدن والقرى السورية ومع ذلك تخرج كل هذه الأماكن وبالآلاف لتقول هذه المرة : الشعب يريد محاكمة النظام .. لم نعد نرتضي برحيل النظام فقط وإنّما سنحاكمه على كل أفعاله القبيحة بدءاً من محاولات زرع الفتنة وشق الصف السوري وتفتيت المجتمع المتعايش وصولاً إلى القتل وهدم البيوت والمؤسسات .. والمحاكمة ستبدأ من حماه المكلومة وساحة العاصي التي شهدت هتافات الحرية .. كل ما يجري في أي بقعة على امتداد التراب السوري قاسي ومحزن ومؤلم .. لكن لحماه حزن بلون وطعم آخر ..ومن لم يعرف طعم ولون الحزن الحموي لن يعرف معنى الحزن ..يا أم فيصل عدي ..ويا كل أمهات شهداء حماه ..سيكبر جميل ابن فيصل ومعه كل أبنائنا بدون انتظار مجازر أخرى .. لا مرات أخرى بعد في حماه ..لا مرات أخرى بعد في سوريا ..ولا أبد بعد اليوم . والعزة لسوريا والمجد للشهداء ..العزة للشعب السوري العظيم وشجاعته الباسلة والحرية المنشودة قادمة لا محال …


المصدر :  http://www.sooryoon.net/?p=30599

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق